مجموعة الثمانين في إطار نظرية النفايات

مجموعة الثمانين في إطار نظرية النفايات


أحمد السويط


باحث في قضية الكويتيين البدون


University College London


dtnvamj@ucl.ac.uk 


24 ديسمبر ٢٠٢١


قد يكون التجاهل هو الخيار الأمثل للتعامل مع بعض المواقف أو الظواهر السلبية. ولكن ثمّة أشياء لايمكن تجاهلها لأن كلفة تجاهلها تتجاوز بكثير كلفة التعامل معها. هذا ينطبق على الظواهر التي تهدد التوازن البيئي كالتلوث الناتج عن النفايات، ولكن أيضاً على الظواهر التي تهدد أمن المجتمعات كخطاب الكراهية والعنصرية. في الواقع، هناك صلة بين التلوثات البيئية والثقافية. هذا ما تكشفه نظرية النفايات (Waste Theory) التي نشأت كإطار للبحث النقدي في أخطار التلوث البيئي وتغيّر المناخ، ولكن أيضا للتحليل الأدبي والثقافي للتلوثات المادية والثقافية التي تهدد المجتمعات، والتي يمكن استغلالها كأدوات للضغط والتسقيط والتصفية بين الخصوم السياسيين.

يسلط الباحثون في مجال الإنسانيات البيئية (Environmental Humanities) الضوء على ظاهرة بروز النفايات على الساحة بهدف دق نواقيس الخطر وتكوين وعي جمعي تجاه التلوث الناتج عن إختلالات السلوك البشري وغياب المسؤولية الإجتماعية. ومن أبرز الأمثلة حول هذا التوجه الدراسات التي تركّز على كارثة تشيرنوبيل عام 1986 للتلوث الإشعاعي، والتي تضرر منها الملايين من البشر وآلاف الكيلومترات من الأراضي، مما شكّل منها لحظة حاسمة في تاريخ أوروبا، تاركةً أثرًا لا يمحى من وعي العامة حول مخاطر النفايات. ولا تزال تلك الحادثة تغذي الوعي الجمعي في الغرب، حيث أنه مازال التطرق لها في البرامج الإعلامية المختلفة قائماً كونها تتعلق بواحدة من أسوأ الكوارث التي صنعها الإنسان في التاريخ، وكونها ترتبط بتضحيات جسيمة بُذلت للتعامل مع كارثة لا يمكن تصورها. تشرح الباحثة في العلوم السياسية والطاقة النووية تاتيانا كاسبيرسكي كيف أن سقوط جدار برلين بعد وقوع كارثة تشيرنوبيل بفترة وجيزة أتاح الفرصة للحوار والتفكير والتنسيق عبر الحدود لوضع سياسة النفايات النووية بين دول الشرق والغرب، وتحمّل الاتحاد الأوروبي مسؤولية أكبر في إدارة النفايات، لاسيما فيما يخص الإجراءات الإحترازية وسرعة الإستجابة لمؤشرات الخطر. لقد قدّمت كارثة تشيرنوبيل لمجتمعات الاتحاد الأوروبي وغيرهم من المجتماعات فرصة للتعلم من الأخطار والفرص المتعلقة بالنفايات، وللإنتقال بهذه المعرفة إلى معالجة أنواع أخرى من النفايات، سواء كانت مادّية أم معنوية.

أمّا في مجال الأدب، فقد استخدم الكثير من الكتّاب، أمثال تشارلز ديكينز، ظاهرة النفايات في تسليط الضوء على الإختلالات الإجتماعية والسياسية، وفي قص أثر وتتبع الأحداث التاريخية، حيث أن النفايات تشكّل جزءًا لا يتجزء من الرواية التاريخية، ومن يتأملها غالباً ما ينتهي إلى التساؤل حول ممارسات الإسراف والهدر وإختلالات توزيع الموارد وغياب المسؤولية الإجتماعية تجاه شيوع النفايات وما يصاحبها من تلوثات وكوارث بيئية وثقافية. هذه المعاني لم تغب عن الكاتب والشاعر الألماني وولفجانج هيلبيج الذي وظف فكرة النفايات في الكثير من أعماله لنقد اختلالات الموازين الإجتماعية وإنفصال القوى السياسية عن الواقع والتاريخ، متخذاً من ظاهرة النفايات شاهداً دالاً على آثار الماضي على الحاضر والمستقبل. ولكن لا تقتصر نظرية النفايات على الأدب فقط، بل تتجلى في الكثير من دراسات العلوم الإجتماعية، مثل كتاب الطهارة والخطر (Purity and Danger) لعالمة الأنثروبولوجيا والمنظّرة الثقافية ماري دوغلاس، وهو من أكثر 100 كتاب تأثيراً على مستوى العالم، وفيه تستخدم دوغلاس مفهوم 'القذارة' كإطار تحليلي لمفاهيم التلوث والمحرمات من منظورات ثقافية مختلفة. بالإضافة إلى ذلك نرى كيف يوظف عالم الإجتماع والفيلسوف المخضرم زيجمونت بومان في كتابة حيوات مهدورة (Wasted Lives) مفهوم الهدر كأداة نظرية وتحليلية لتفكيك ونقد ممارسات إقصاء فئات إجتماعية معيّنة ومعاملتهم كعدد فائض وغير ضروري من السكان البشري، والمؤلم والمثير للسخرية في هذا الأمر أن القائمين على تصنيف البشر هم من يشكلون الخطر على المجتمعات في أغلب الأحيان.

بعدما استعرضنا بإيجاز دور نظرية النفايات في دراسة وتحليل الظواهر الإجتماعية، لعله من المفيد أن نوظفها لرصد تداعيات مجموعة الثمانين التي لاتكتفي بتبني عقيدة فكرية ملوثة بالرجعية والعنصرية والإقصائية، بل تصر على إبراز ونشر تلوثها في المجتمع الكويتي رغم أخطاره المادية والمعنوية على المدى القريب والبعيد. ولعل من أعاجيب هذه المجموعة هو مهاجمتها وهمزها ولمزها عديمي الجنسية (الكويتيين البدون) والمواطنين الكويتيين 'المجنسين'، لا بدافع العوز وشح الموارد، بل بدافع الحسد وتعويض متلازمة عقدة النقص التي يعاني منها الكائن العنصري. ولعلها ليست بمصادفة أن من تستهدفهم مجموعة الثمانين بشكل أساسي وممنهج هم أبناء القبائل (الشمالية والجنوبية على حدٍ سواء) الذين مازالوا متمسكين بموروثاتهم الثقافية وممارساتهم الإجتماعية التي تميزت بالكرم والسماحة والإيثار والأنفة والشهامة والحميّة وإجارة المستجير، والذين لم ينسلخوا من تاريخيهم وهوياتهم العرقية لكي يرضى عنهم العنصرييون. لا يكاد أحد الثمانينيين أن يفتح فمه على الملأ إلًا وهمز ولمز بمكونات المجتمع، متستراً بشعار 'الهوية الوطنية'، ورافعاً راية الحامي لها من 'التجنيس العشوائي' والمحارب لمن حصلوا على الجنسية 'بالتزوير' ومن 'دفنوا جنسياتهم' للمطالبة بحق المواطنة. هناك من الأدلة ما لا يحصى على زيف إدعاءات هذا الخطاب العنصري المليء بالتناقضات والمفارقات، ولو أردنا أن ننزل إلى مستوى الخطاب العنصري الرجعي لأثبتنا بالأدلة والبراهين أن أعضاء مجموعة الثمانين ومؤيديهم جميعاً ما هم إلّا 'لفو' على أرض وتاريخ وثقافة الكويت وشبه الجزيرة العربية، وأن خطابهم أجنبي تماماً عن القيم والمبادىء الإنسانية والأخلاقية التي تعارفت عليها شعوب شبه الجزيرة العربية من قبل مجي الدول المدنية التي يبدو أنها لم تنجح في خلق نظام إجتماعي يحفظ كرامات الناس بغض النظر عن مواقعهم في السلم الإجتماعي والهيكل السياسي. ولكن ربما ليس من المهم أو المجدي محاججة العنصري بقدر الحاجة إلى تحجيمه وتحييد ضرره على المجتمع.

إن أكثر ما يدعو إلى القلق والشعور بالخذلان أمام الواقع البائس الذي يخفت فيه صوت التعايش السلمي ويعلو فيه خطاب الكراهية، هو لامبالاة المجتمع، لاسيما السياسيين، عن أخطار التلوث الثقافي والإجتماعي الذي تشكله مجموعة الثمانين. إن لم تمكننا أدوات الحداثة والتمدن من التصدي لهذا التخلف والرجعية، ليتنا على الأقل أن نستتنهض شيئا من ثقافة مجتماعاتنا التي عاشت في شبه الجزيرة العربية قروناً من الزمن محتكمةً إلى قيم وأعراف تستنكر وتحقّر الجور على الضعفاء، وتعتبر (الصمت عن) ذلك مجبنة ومنقصة وعار وشنار. ليتنا على الأقل أن نوظف ظاهرة التلوث الثقافي الذي تشكله وتتسبب به تكوينات عنصرية كمجموعة الثمانين في إعادة النظر في واقعنا، على الأقل كما يوظف السياسييون ظاهرة النفايات وفيضانات الشوارع في موسم الأمطار لانتقاد وتسقيط وتصفية خصومهم. إن بروز ظاهرة النفايات الثقافية وأصوات الجهل والعنصرية على المشهد الإجتماعي في الكويت مقابل انخفاض صوت العقل والحكمة يدعونا إلى استنتاجات حول اعتلال منظومة القيم الإجتماعية، بل ربما (قرب) إنهيارها. ولكن لعل في التأمل في دلالات التلوثات الثقافية  التي نعيشها فرصة لنا لقراءة التاريخ وتحديد مواقعنا منه بشكل أفضل، على الأقل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

Comments

Popular posts from this blog

تقرير بشأن مشروع قانون رئيس مجلس الأمة الكويتي لتحديد مصير عديمي الجنسية الكويتيين البدون